نساء ريفيات يصنعن المستقبل من المنزل
وهبة يحيى إمراة يمنية من محافظة الحديدة مديرية المراوعة تبلغ من العمر (35 عام). كانت طفلة ذات يوم، ولم تكن تمتلك أفضل حظ في العالم لوقت طويل. في سنواتها المبكرة لم تحظى بفرصة كاملة لنيل حقها في التعليم. أجبرتها أسرتها على ترك المدرسة عندما كانت لا تزال في المرحلة الإعدادية بسبب وضعهم المادي المتدني. "لأني البكر في اخوتي وبحكم أننا نعيش في الريف ونعتمد على تربية المواشي أخرجني أهلى من المدرسة لمساعدتهم في العمل" تقول. لاحقا عندما أصبحت في سن الـ15 من العمر وجدت نفسها في ثوب الزفاف. لم يختلف وضع وهبة كثيرا بعد الزوج، وعدا عن أنها أصبحت أم لثلاث بنات بينما كانت في مطلع العشرين من عمرها، فقد رافقتها الحياة القاسية كظلها، ثم عانى زوجها من مرض جعله غير قادر على العمل بشكل جيد. لفترة طويلة من الزمن عاشت وهبة حياة لن تحلم بتكرارها أبدا، لكنها اليوم تتطلع لمستقبل مختلف، مستقبل تصنعه هي ومن المنزل أيضا.
وهبة واحدة من مئات آخريات في باجل والمراوعة بمحافظة الحديدة تتشابه حياتهن أكثر مما تختلف، ولكن أيضا لديهن نفس الحلم يتطلعن لتحقيقه، خاصة وقد زاد أملهن بذلك بعد أن تم استهدافهن في مشروع يهدف لتعزيز الصمود الريفي للأسر في اليمن تنفذه مؤسسة تنمية القيادات الشابة بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وإلى جانب وهبة، هناك زينب علي (37 عام) متزوجة وتعيل أسرة مكونة من 6 أشخاص، ورجاء محمد (27 عام) متزوجة ولديها 3 أطفال، بالاضافة الى ولاء عياش (19 عام) خريجة ثانوية عامة لم تكن قادرة حتى وقت قريب على مواصلة تعليمها ودخول الجامعة بسبب ظروف أسرتها المادية، لكنها على وشك أن تحقق هذا الحلم قريبا. وهبة، زينب، رجاء، وولاء جميعهن بدأن منذ أشهر مشاريع تجارية من المنزل، فكيف حصل ذلك؟ وكيف سيؤثر على حياتهن؟
في ديسمبر 2019، بتمويل مشترك من الاتحاد الأوروبي و الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي بدأت مجموعة من منظمات ووكالات الأمم المتحدة وهي منظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتنفيذ البرنامج المشترك لدعم سبل العيش والأمن الغذائي في اليمن (الصمود الريفي 2) مستهدفة ست محافظات تم تصنيفها على أنها الاشد حاجة وهي: حجة، الحديدة، لحج، أبين، تعز وصنعاء. وفي مارس 2020 تقدمت مؤسسة تنمية القيادات الشابة للعمل في واحدة من هذه المحافظات كشريك تنفيذي وطني، وأستهدفت مديريتي باجل والمراوعة في محافظة الحديدة، وقد أستفادت 1000 أسرة على الأقل.
هدف البرنامج إلى المساهمة في الحد من تأثر الأسر الفقيرة والأشد ضعفا وتعزيز قدرة المجتمعات المتأثرة بالأزمة في اليمن على الصمود من خلال إيجاد سبل رزق مستدامة والوصول إلى الخدمات الأساسية. وحصلت 350 إمرأة على الأقل كن أو كانت اسرهن بأمس الحاجة للمساعدة على نوع واحد أو أكثر من الدعم (منح صغيرة، حزمة تدريبات بينها تدريب في ريادة الأعمال، منظومات طاقة شمسية، فرصة عمل في مكون النقد مقابل العمل). تقول وهبة: " كنت أمر بظروف صعبة زوجي يعاني من مرض وتوقفت بناتي عن الذهاب إلى المدرسة". أما زينب التي تعول أسرتها بنفسها فتقول: "كنت بحاجة لمصدر رزق". وفيما أرادت ولاء أن تبدأ مشروعا تجاريا لأن لديها اهداف كثيرة، أهمها: "كي أعتمد على نفسي وأدرس جامعة" كما تقول، كان دافع رجاء للتقديم للبرنامج هو حاجتها الإعتماد على النفس.
حصلت 234 امرأة وفتاة من باجل والمرواعة على منح مالية بمبلغ 336 الف ريال لكل واحدة (يعادل 600 دولار امريكي)، بالاضافة إلى تدريبات متخصصة في ريادة الأعمال تعرفن من خلالها على كيفية عمل خطة المشروع، دراسة الجدوى، التسويق والحسابات المالية. بعد ذلك شرعن في تأسيس مشاريعهن التي جاءت ضمن 7 مجالات: طاقة شمسية، تربية ماشية، تربية نحل، مصنوعات ومشغولات يدوية، مصنوعات غذائية، فخار وبيع أسماك.
ومنذ 5 أشهر أو أكثر بقليل، بدأت أغلب تلك المشاريع تعمل. تمتلك وهبة يحيى الآن مكينتي خياطة، وتدير مشروعها من المنزل بعد أن استأجرت غرفة إضافية خصصتها للعمل. تقول: "إذا بدأت العمل من الساعة 7 صباحا، ولم انشغل بشيء أخر، أنتج 5 أرواب نسائية، أو 3 بدلات رجالية في اليوم". ولا يقتصر انتاجها على نوع معين من الملبوسات، فلديها القدرة على تصميم وخياطة أي لبس، إلا أن ملبوسات الأطفال والفساتين والارواب النسائية والجواكت الرجالية هي الانواع التي تنتجها بشكل متكرر لأن عليها طلب أكثر.
ما تزال وهبة في بداية مشوارها، لديها تجربة وخبرة متواضعتين بالعمل وبالسوق، كما أن جحم المعرفة بمشروعها لا يزال مقتصر على الجيران والحي الذي تعيش فيه. لكن مقارنة بإسعار الملابس في السوق تبيع وهبة منتاجتها أرخص بنسبة تصل إلى 60-70%. لا تزيد قيمة أغلى منتجاتها عن 3500 ريال (أقل من 6 دولار بقليل)، ولا تقل عن 1500 ريال (2.5 دولار). تحدد أسعارها بحسب القماش ونوعيته بالاضافة إلى نوعية الخياطة. تقول وهبة: "أنواع الأقمشة التي لها طلب هي القطني الصافي والقطني المنقش، واسعارها تختلف. سعر الصافي يبدأ من 1000 ريال ويصل الى 1800 ريال، والمنقش يبدأ من 1300 الى 1800 ريال. وربحي بعد القماش 200 ريال فقط، ومقابل العمل يحدد بحسب الخياطة، هناك خياطة للأمهات تكلف 500 ريال وللشباب تكلف 1000 ريال، وهناك خياطة تكلف 1200 ريال، وأخرى تكلف 1500 ريال". وتضيف: " ظروف الناس صعبة ونحن ماشيين على حسب الظروف".
يتفاوت دخل وهبة اليومي والشهري بحسب مواسم معينة أكثرها ثباتا هي موسمي عيد الفطر وعيد الأضحى، وهي مناسبات وأعياد دينية يتم الاحتفاء بها سنويا، أحد أكثر أشكال هذا الاحتفاء يكون بشراء ولبس الثياب الجديدة. وهناك مواسم الأعراس، وهي غير محددة بنطاق زمني واضح، لكنها تكون عادة بعد الأعياد الدينية بفترة قصيرة، وخلال فترة الصيف. "مر موسمان منذ أن بدأت المشروع، كان العمل خلالهما ممتاز، وترواح صافي دخلي اليومي بين 5000 و 10,000 ريال. وأفضل شهر حتى الأن كان صافي دخلي فيه 70 الف ريال" قالت وهبة. وأضافت: " في الأيام العادية أشتري قماش بـ 10 الف ريال واشتغله خلال كامل الشهر، كما أستقبل قطع من الزبائن واخيطها واخذ أجري".
ومن غرفة في منزلها بها نافذة للخارج تدير زينب علي مشروعها وهو عبارة عن بقالة لبيع المواد الغذائية. وتتشارك رجاء محمد العمل على مشروعها الخاص ببيع الحلويات والمعجنات مع زوجها، تقوم هي بتحضير المنتجات في مطبخ المنزل، ويقوم هو بتوزيعها للمحلات في السوق والأحياء القريبة. ولدى ولاء عياش بوفية خاصة للنساء افتتحتها في محل ملاصق لمنزل والدها، وهو المشروع الذي تديره حاليا بمساعدة شقيقاتها.
"بقالة الأمل" هذا هو إسم مشروع زينب. ربما هو ليس اسما جذابا أو مختلفا، لكنه يشير بشكل واضح إلى ما تتطلع إليه هذه المرأة الصلبة، والأهم أنه يلخص قصة حياة ليست سهلة بأي شكل من الأشكال، إنها قصة زينب نفسها. منذ سنوات تعيل زينب أسرة مكونة من 6 أشخاص، هي وزوجها بالإضافة إلى 4 أطفال، لأن زوجها غير قادر على العمل. قبل 4 سنوات إضطرت أن ترسل طفلها الأكبر للعيش مع جدته في قريتها بمحافظة حجة من أجل أن يحظى بفرصة لدخول المدرسة بعد أن تأخر سنتين عن ذلك منذ أن أصبح في سن الدراسة. وبعدها بسنة أرسلت طفلتها أيضا والتي كانت قد تأخرت سنتين هي الأخرى. أطفال زينب، هاشم (12 عام) وتغريد (11 عام) يدرسون حاليا بانتظام. الاول في الصف الرابع أساسي، والثانية في الصف الثالث أساسي.
منزل زينب ايجار وليس ملك، ويتكون من غرفتين، واحدة منها تحولت إلى بقالة منذ 5 أشهر. تقول: "صحيح أن البيت اصبح أضيق، ولكني تغلبت على صعوبات أكبر". مضيفة: "أستفدت من برنامج دعم الصمود الريفي كثيرا، ساعدني في التغلب على مصاعب لا تنتهي، وأن أعتمد على نفسي وأكسب المال واقدر ان أصرف واصرف على نفسي وعلى اسرتي وحالتي الان أفضل، تحولت من الاسوا الى الافضل". عندما بدأت زينب مشروعها كان الوضع مبشرا ودخلها اليومي وصل الى 10 الف ريال، لكنها تقول أنه تراجع مؤخرا إلى 5000 ريال، ومع ذلك هي متفائلة وتعرف أنها لا تزال في البداية.
والوضع يختلف قليلا مع رجاء محمد. هي الوحيدة هنا التي اكلمت تعليمها الجامعي، ولكنها كانت عاطلة عن العمل وتريد أن تعتمد على نفسها. لم تحصل رجاء على منحة كي تبدأ مشروعا، بل لكي تطوره. كان لديها مشروعها بالفعل، لكنها كانت تعمل عليه بشكل متقطع لانها لا تمتلك التمويل الكافي. تقول: "هذا البرنامج علمني كيف أكون شخصية قيادية وكيف أدير مشروعي والارباح والخسارة، وحاليا أطمح لتوسيعه وفتح فروع في أماكن أخرى".
أما ولاء عياش فلا تعتقد أنها كانت قادرة على تحقيق حلمها بدراسة الجامعة بدون ما قدمه لها برنامج دعم سبل العيش والأمن الغذائي في اليمن. تقول: "والدي لا يستطيع تحمل نفقة دراستي الجامعية، وبعد سنة من إكمال المرحلة الثانوية، كنت اعتقد أنني أحلم بشيء من الصعب تحقيقه".
حاليا تدير ولاء مشروعها (بوفية خاصة للنساء) بمساعدة شقيقاتها، ويقدمن مأكولات سريعة، وعصائر. وعندما تعود بذاكرتها سنة للوراء وتتذكر كيف لم يؤمن أحد بإمكانية نجاح مشروعها، يدفعها ذلك للعمل بنشاط أكبر- بحسب قولها- فهناك أشياء لا تزال تريد أن تحققها. تقول ولاء: "في البداية كان الذي حولي يقولون لي كيف تفتحي كفتيريا للنساء؟ لكني صممت لانه مافيش في منطقتي كفتيريا. ولما بدأت العمل حسيت ان النساء ارتحن بهذه الكافتيريا". وتضيف: " حاليا أشعر أن هناك إمكانية كي أكون إنسانة لها بصمة في الحياة، والأهم هو أني بدأت بجمع رسوم التسجيل في الجامعة".
وبالعودة إلى "الشخصية القيادية" في حديث رجاء و"الإنسانة التي من الممكن أن يكون لها بصمة" كما تشعر ولاء وإلى الكثير من التفاصيل في حياة وهبة وزينب قبل وبعد تأسيس مشاريعهن؛ هناك شيء آخر ذو أهمية كبيرة حدث أيضا، وهو أن جميعهن أصبح لهن صوت، حضور وشخصية قادرة على إتخاذ القرار وهذا أمر أخر وضعه القائمين على البرنامج في إعتبارهم من البداية. للتأكد من هذه الجزئية تحديدا وعما إذا كن يدركنها ويشعرن بها أم لا سؤلت كل واحدة من الأربع سؤال واحد على الأقل في هذا السياق، وعلى الرغم من أن الإجابات جاءت بكلمات مختلفة، إلا أن لها نفس المعنى.
وفي حين أصبحت زينب قادرة على تحمل المسؤولية وصارت كلمتها مسموعة أكثر على مستوى أسرتها، كما تقول، ذهبت رجاء للحديث عن كيف طور النقاش وتبادل الاراء بينها وبين زوجها عن المشروع لغة تفاهم أكبر بينهما حتى أصبح كل واحد منهما قادر على إتخاذ القرار بشأن أي أمر كان ونقاشه بسهولة. "أصبحنا نفهم بعض أكثر وندعم بعض أكثر عندما يتخذ أحدنا قرار نجده لصالحنا" تقول. ولاحظت ولاء أنها أصبحت إنسانة مختلفة في فترة قصيرة لا تتجاوز 5 أشهر. "إنسانة أفضل" كما تقول، حتى أن جميع أفراد اسرتها صاروا يسألونها عن رأيها ويقدرونه بما في ذلك والدها، وهو الأمر الذي أدهشها في البداية.
وقبل شهرين عاد أطفال البلد الجريح بسبب الحرب المستمرة للعام السابع على التوالي إلى مدارسهم. حدث ذلك في منتصف أغسطس الفائت بالتحديد، عندما بدأ العام الدراسي الجديد 2021-2022 في اليمن. وعلى خلاف العام السابق كان بين العائدين 3 شقيقات هن ولاء، شذى (صف أول ثانوي) وقمر (صف سابع)، ثلاثتهن إنقطعن عن المدرسة العام الماضي بسبب عدم قدرة اسرتهن على تحمل تكاليف تعليمهن، لكن قرارا إتخذته والدتهن أعاد لهن الفرحة والمستقبل. والدتهن هي وهبة يحيى، وتقول وهبة:"لم نكن قادرين على تحمل مصاريف تعليمهن العام الماضي، ولكن كنت أعرف أنهن سيعودن، فأنا حرمت من التعليم ودائما أشعر بالغبن من هذا ولم أرد لبناتي أن يشعرن كما شعرت، وعندما بدأت المشروع وأصبحت قادرة على تحمل مصاريفهن إتخذت القرار بعودتهن وهذا أسعدهن وأسعدني".